أضحكتني إحداهن عندما كتبت:
“أشعر بالاكتئاب، وأشعر بأنّي أحتاج لمن يحتضنني ويبكي معي، أشعر بأنّ كلّ ما حولي أسود ومظلم، أنا حقًا أريد أن أبكي وأن أحتضن أيّ شيء، وأيّ شيء يغمرني ويواسيني في هذه المحنة، اليوم هو أسوأ أيّام حياتي… أنا اليوم أغادر الشّارع الثّامن عشر في العاصمة الفرنسية باريس.
أنا اليوم أغير مكان سكني وأنتقل إلى الشّارع التّاسع في المنطقة المجاورة لهذا الشّارع الرّائع، في هذا الشّارع عشت كلّ تفاصيل حياتي، هنا تذوقت ألذ قهوة في باريس، وهنا اشتريت أطيب خبز وزرت أفضل المعالم التّاريخية والمباني العظيمة الّتي شيدت في القرن الثّامن عشر، أنا أغادر قطعة من قلبي وأودع أجمل ذكرياتي… لا أستطيع أن أصف شعوري الحزين بألّا أستيقظ كلّ صباح وأنا أشم رائحة الخبز من نافذة غرفتي، أو ألّا أجلس في شرفتي وأكتب مقالاتي بكلّ إلهام وتركيز، أنا أحتاج إلى أحد ما يقول لي بأن هذا حلم”
لقد ضحكت جدًّا حين قرأت مدونة كاملة وُصف فيها هذا الشّعور، كيف يمكن لشخص أن يكون حزينًا وكئيبًا لهذا السّبب؟ أن تغادر الشّارع الثّامن عشر إلى الشّارع التّاسع في باريس ليس مؤذيًا ولا محزنًا، أحقًّا هناك أناس يعيشون الحياة بهذه الطريقة؟ هذا ما دار في بالي وتساءلت: كيف لها أن تحزن وتجول في شوارع باريس وتتذوق الخبز وتشرب القهوة وتكتب على شرفة إحدى معالم باريس؛ ومع هذا كلّه هي حزينة لأنها تغادر هذا المكان لذاك المكان في نفس البلد!
أن أكون في باريس يعني أن أكون محظوظًا.
لا نبالغ هنا على الإطلاق، يعلم الجميع ما تمر به البلاد، وما نعيشه نحن الأجيال المنكوبة في هذه المنطقة، نحن لا نستيقظ على رائحة خبز باريس، ولكن نستيقظ راكضين للقيام ببعض المهام الّتي تحتاج إلى تيار كهربائي؛ غسل الملابس وكيها، شحن الهاتف والكمبيوتر، تعبئة خزان المنزل بمياه، تشغيل التّكييف بعد حفلة شواء حامية لأجسادنا ليلة البارحة، نحن لا نشرب القهوة على شرفة أحد مباني باريس في الشّارع التّاسع عشر، ولكن نشربها في شوارع مكتظة بضوضاء المولدات الكهربائيّة، وتسكع بعض الشّباب يعتلي وجوههم البؤس والخيبة، نحن لا نحتضن بعضنا حين نغادر شارعًا وشارعًا في فرنسا، نحن نحتضن بعضنا حين يموت رفيقنا العزيز برصاصة تائهة في سماء الوطن، حين يغادرنا الأب والأم محملين بعبء ولادتنا في هذا الوطن، نغمر أجساد بعضنا حين تمتلىء مآقي جفوننا بالدموع.
هل هذا الوضع محزنًا؟
أن تكون خارج هذا الهم ليس محزنًا، بل بالعكس، أنت في الجنة الّتي رسمها الله للبشر في هذه الأرض، لا يغرك الكلام الوطني الباهت، ذاك الّذي يصف الأرواح الّتي خارج الوطن أنها ضائعة أو جرت بها سبل الحياة بعيدًا عنا، لا وألف لا! لم يشعر بهذا الهم إلّا من تذوق منه حتّى ارتوى وحتّى كاد يتفجر قدره غاضبًا مقررًا المغادرة منتحرًا ومجهولًا. سيقولون لنا: “بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة”، ولكن يا أعزائي لا بلاد تجر شبابها إلى الهواية.
لا يعلم أولئك المنسلخون عنّا والّذين لفتهم الحياة بالحظ ليكونوا خارج البؤس الّذي نعانيه، لا يعلمون معنى أن تتشبث بك “ليس باليد حيلة”، ولا يعلمون معنى أن تنهار أمامك كلّ الخطط وكلّ الوسائل دافعة بك نحو الفشل والاستسلام، لا يعلم هؤلاء الّذين يحزنون على الشّارع التّاسع في باريس أن تحزن على وطن كامل وأرض كاملة وشعب كامل وجيل كامل، لا يعلمون أن الحزن الحقيقي قابع في الرّجوع إلى الخلف لأن الأمام مدمر، وأن الاستمرار مضيعة للزمن.
لم أترك تعليقًا لتلك المدوِّنة، ولكن حقًّا أردت أن أكتب لها: “لا أحد يعلم عن الحزن شيئًا إلا نحن؛ شعب ضاقت به السّبل فنام على هم صنعته حكومته خصيصًا له، وصممته أقدار الله جل جلاله له، كما أنّنا راضون وحامدون وشاكرون لله رب العالمين أنّنا لم نغادر الشّارع الثّامن عشر في باريس!
إعداد: إيمان فرفر | مراجعة: هند يونس | إشراف: مصطفى فرحات