يصوغ للكثيرين الإقرار بأهمية الحضارات الشرقية القديمة، نقيض التوجه الميال إلى اعتبارها نتاج حضارة الغرب اليوناني فيما يعرف بأصحاب المعجزة اليونانية، إلا أن التاريخ يثبت للعيان بأن الحضارة الشرقية القديمة كانت سباقة للفكر والمعرفة، ووضع القوانين البشرية المؤثرة في البناء الحضاري. الذي طالما تجدر في عقول المشارفة القدامى؛ ليثير عقلية التفكير النقدي والفلسفي، وتوضع بذلك أولى لبنات فلسفة الحضارة الشرقية، وإن ذوي الرأي في اعتبار مستند الفلسفة راجع إلى الحضارة اليونانية، بكونها مستقلة في المبادئ والأسس،ولا يمكن بأي حال من الأحوال وصلها بالحضارة الشرقية، بل هما منفصلين وإن كانت الفلسفة تتوافق في الغالب في الرؤى والمرجعيات.
وهذا الطرح أيده بعض المستشرقين مثل فريدريك كوبلستون في كتابه “تاريخ الفلسفة” حيث يقر أن الفلسفة معجزة يونانية انفردت بها بلاد اليونان دون سائر الشعوب، يقول: “إن الفلسفة اليونانية هي في الواقع إنجاز اليونان الخاص، وثمرة قوة ذهنهم ونضارته، تماما مثل اإنجازهم الخاص في الأدب والفن. وينبغي ألا نسمح لرغبة حميدة جديرة بالثناء تريد منا أن نضع باعتبارنا إمكان وجود مؤثرات غير يونانية أن تقودنا إلى المبالغة في أهمية هذه المؤثرات فتجعلنا نقلل من أصالة العقل اليوناني”.
كتاب فجر الفلسفة اليونانية:
وبنفس الروح الإقصائية والروح الاستعلائية نجد جون بيرت في كتابه فجر الفلسفة اليونانية يدعم نفس الطرح ويقول: “إن البحث فيما إذا كانت الأفكار الفلسفية عند هذا الشعب أو ذاك من الشعوب الشرقية قد وصلت إلى اليونان أم لا؟ هو مجرد مضيعة للوقت من الناحية العملية، مالم نكن على يقين من البداية أن الشعب الذي نتحدث عنه كانت لديه أصلا فلسفة، والقول أن للمصريين فلسفة يمكن نقلها لم يثبت قط”.
وكل ما اطمئن إليه هؤلاء، خالفه فريق بنى فكره على أن الفلسفة منبعها الشرق بل أن الغرب لم يكن ليعرف فلسفته لو لم ينهل من الحضارات الشرقية، ويتحدث فؤاد زكريا في معرض تصديه لهذا الإشكال في كتابه “التفكير العلمي” قائلًا: “إن الكلام عن معجزة يونانية ليس من العلم في شيء، فالقول أن اليونانيين قد أبدعوا فجأة، ودون سوابق أو مؤثرات خارجية، حضارة عبقرية في مختلف الميادين، هو قول يتنافى مع المبادئ العلمية التي تؤكد اتصال الحضارات، وتأثير بعضها ببعض، على حين أن لفظ المعجزة يبدو في ظاهره تفسير لظاهرة الانبثاق المفاجئ للحضارة اليونانية، فإنه في واقع الأمر ليس تفسيرا لأي شيء، بل تعبير غير مباشر عن العجز في التفسير””.
فيرى مايز:
وعلى نفس المنوال يقول فيرى مايز “أن المدنية اليونانية لم تبدأ بالرقي الحقيقي إلا بعد أن احتكت بالشرق في ايوليا وايونيا بآسيا الصغرى” ويبرز ها هنا سؤال ما معنى البحث عن فعل النشأة بالأساس؟ هل الفلسفة شرقية الأصل أم غربية المولد؟ وما المعيار المعتمد عليه في كون الحضارات الشرقية منبعا للحكمة؟ وما مستند القول بإرجاع الحكمة إلى الحضارات الشرقية؟ وهل لعبت الحكمة دورا في تقدم المجتمعات اللاحقة؟ وهل كان من اللازم اتخاذ حكمة الشرق مرجعا؟ وإن كان الجواب بالإيجاب فما تأثير ذلك على الحضارة الإغريقية؟ وما تجليات ذلك؟
ازدهار الحضارات الشرقية القديمة:
عرفت الحضارات الشرقية القديمة ازدهارا في مختلف الميادين والمجالات بفعل ما سنته من قوانين وما اكتشفته من علوم وما دونته من أفكار من بينها الحضارة المصرية، حضارة بلاد الرافدين، الحضارة الهندية وغيرها كثير، كلها خلفت إرثا عظيما وكنزا معرفيا وفكريا ثمينا، نهلت منه كل الحضارة على رأسها الحضارة الإغريقية، وقد تحدث الدكتور حسين مؤنس عن مفهوم الحضارة قائلا: “هي ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته سواء أكان هذا المجهود المبذول مقصودا أم غير مقصود وسواء أكانت الثمرة مادية أو معنوية”.
إن الحديث عن ما قدمته شعوب الشرق القديمة لا ينفي أبدا ما وصلت إليه اليونان من إنجاز واستحقاق على كافة الأصعدة والمجالات، بل يؤكد على أن المجتمع اليوناني كان منفتحا على نفسه، الشيء الذي جعله يتصل بحضارات الشرق القديمة وينهل منها الكثير من العلوم والمعارف والحكم.
الحضارة المصرية:
ومن بين هذه الحضارات نذكر الحضارة المصرية التي تعد واحدة من أكبر وأقوي الحضارات في تاريخ البشرية جمعاء. كانت هذه الحضارة موجودة على طول نهر النيل في شمال شرق إفريقيا، وكان النيل مصدرا لكثير من ثروات مصر القديمة، إضافة إلى أنها تعد من أطول الحضارات وأعرقها أصولا.
امتاز المجتمع المصري القديم بطقوس دينية متنوعة كانت مسيطرة على مختلف الميادين، وعرف هذا المجتمع تقسيما طبقيا بدءا بالفرعون وانتهاء بالعبيد فيما يسمى نظام الهرمية، وكانوا يتفننون في تشييد القصور والمباني والمعابد. وركزوا بشكل كبير على الزراعة وتجارة الذهب وتصنيع الورق الذي كان يصدر إلى بلاد الإغريق.
قيام الحضارة المصرية:
ومن ضمن العوامل والدوافع الممهدة لقيام هذه الحضارة نجد نهر النيل الذي يعد من أكبر أنهار العالم إضافة إلى كونها تطل على واجهتين بحريتين مع مناخ معتدل ورطب. كل هذا جعل من مصر القديمة موقعا استراتيجيا مميزا لتشكل حضارة أدهشت العالم؛ لتبقى تلك المآثر ملاذ المستكشفين والمؤرخين.
اتسم النظام السياسي المصري القديم بطابع ديني، على رأسه الفرعون صاحب السلطة المطلقة في البلاد، كان يلقب برب الأرض فهو حاكم وكاهن وقائد للجيش, يشرع القوانين ويعين الموضفيين وقد كان يقيم في قصره يحيط بت كبار المسؤولين والحكام. ويقال على أن الفرعون لا يموت, بل يصعد إلى السماء ليستريح ويعود ليمارس الحكم من جديد، ومن هنا نستخلص أن هناك تداخل بين ما هو سياسي وديني في شخص الفرعون.
أخلاقيات الحضارة المصرية:
وقد كانت الحضارة المصرية حضارة أخلاقية بامتياز جعلت جوهرها الخير والحق والعدالة، فمع تأسيس الدولة المصرية وضع المصريين قانونا أخلاقيا ينظمهم، وكان على كل فرد بغض النظر عن وضعه الاجتماعي أن يخضع لهذا القانون الذي يسري على مختلف الطبقات، وقد جاء فيه ما يلي لاتدخل المعبد وأنت نائم، لا تذهب إليه وأنت غير طاهر. ولا تتهم فيه أحدا زورا أو تغتابه هناك، لا تقدم شيئا محرما، لاتستخدم العنف ضد أي إنسان، وغيرها.
وهناك اعتقاد بأن كهنة مصر هم من وضعوا هذا النظام الأخلاقي، إضافة إلى أن نصوص التوابيت تتناول الخير والشر حيث الخير إشارة على الطاعة الرب أو الإله، والشر دليل على العصيان والتعذيب. وبهذا يمكن لنا القول أن المصريين كانوا سباقين لكل الشعوب في وضع التشريعات الأخلاقية ووضع المبادئ والقيم للحفاظ على تماسك المجتمع.
أما من الناحية الدينية فقد تعددت الآلهة التي عبدها المصريون القدماء رع آمون, اوريس, اوزيس, ومع اخناتون سيتم توحيد الآلهة في إله واحد “إله الشمس رع” بعدما كانت البلاد مقسمة إلى اثنين وأربعين إقليما، وكان لكل إقليم معبوده الخاص يقيمون له المعابد ويصنعون له التماثيل ويقدمون له القرابين.
الجانب الثقافي للحضارة المصرية:
وفي الأخير سنشير بشكل مقتضب إلى الجانب الثقافي، حيث كان المصريون من أوائل الشعوب التي اهتدت إلى اختراع الكتابة على غرار السومريين ببلاد الرافدين، كان ذلك قبل عصر توحيد البلاد، باختراع الكتابة كان من اليسير على المصريين تدوين ما يقومون به في مختلف الميادين دينية كانت أو سياسية أو ثقافية، وتجدر الإشارة هنا إلى أن المصريون عرفوا تلات أنواع من الكتابة أولها الهيلوغريفية وكانت تستخدم في الكتابة على الجدران واللوحات الخشبية واستمدت هذه الكتابة رموزها من الطبيعة المصرية وتطورت بعد ذلك إلى الكتابة الهيراطيقية وكانت خاصة برجال الدين لكتابة النصوص الدينية ثم بعدها الكتابة الديموطيقية أو ما يدعى بالكتابة الشعبية. وقد اشتهر المصريون بفن الرسم والتصوير والنحث وبناء الثماتيل، كما نجحوا في صناعة ورق البردي إلى غير ذلك.
والواقع أن الحضارة المصرية، حضارة عظيمة بامتياز خلفت إرثا ثمينا يعد ذخيرة ورصيد للحضارات اللاحقة منها اليونان، فرغم نكران بعضهم بما أنجزت هذه الحضارة وغيرها من الشرقية لهو من البلادة بحكم أن التاريخ يؤكد علاقة التأثير والتأثر القائم بين هذه الشعوب، فاليونانيون استفادوا كثيرا من المصريون سواء من ناحية الفكر وحتى الرياضيات والعلوم والهندسة. فقد تأثروا بعقائد المصريين وطقوسهم الدينية تأثرا بالغا حيث حظيت آلهة مصر باحترام اليونانيين، بل أكثر من ذلك أن المؤرخ هيرودوت اعتبر أن أصل معظم أسماء الآلهة اليونانيين جاء من مصر، كمثلا ايزيس المصرية هي ديميتر اليونانية، وآمون هو زيوس كبير آلهة اليونان وغيرها كثير.
إعداد: فاطمة أغريج | مراجعة: هند يونس | إشراف: مصطفى فرحات