هممت بإخراج كل دفاتري القديمة التي كنت أكتب بها كل الرسائل التي أردتُ أن أرسلها إلى أبي عندما يعود إلى أرض الوطن. أردت أ أحادثه كل مرة ومع استحالة ما كنت أطلبه إلا أنني كنت أكتب له الرسائل في الدفتر الذي أعطاني إياه كهدية يوم مولدي الحادي عشر. وأنا الآن أبلغ من العمر الواحد والعشرين. إحدى عشر ربيعا مر على الصمت بيني وبين والدي ومنذ أخر مرة تمكنت فيها من الكتابه له.
الكتابة من جديد
أعاود الكتابة، بدأت أعي تماما كيف يمكنني أن أتخلص من كل مخاوفي الواحدة تلو الأخرى. أثناء شروعي بفتح الدفتر المخبأ في صندوقي الخشبي انتشلته من بين الدمى والقليل من البومات الصور القديمة. ومسحت بأطراف أصابعي عنه بعض غبار الأيام المتراكمه عليه، بعض غبار الصمت وغبار الحنين والاشتياق.
سرد خواطر الشوق
بدأت أول صفحة وكتبت له عن أول يوم دراسي لي في المدرسة الثانوية. وكتبت له عن فرحتي باقتنائي أقلام الحبر الجافة. كتبت له عن حزني الشديد حينما لم أتمكن من الحصول على دفتر رسم كعادتي في المدرسة الابتدائية. وعن حزني حينما قررت أمي أن تعطي جميع ألعابي إلى اختي الأصغر مني. كتبت له عن كل أيام الأسبوع التي لم أتمكن من الذهاب فيها إلى المدرسة بسبب إصابتي بوعكة صحية. كتبت له عن خوفي الدائم من قطع الشارع إلى الجهة المقابلة. وكتبت له عن كل أيامي خلال الثانوية، لطالما كان الأسى يملأ نهاية كتاباتي له.
استمرار الحياة
وحين تخرجي ودخولى إلى كلية الهندسة بعد ذلك لم أكتب أي شيء وقررت أن أضع الدفتر في الصندوق الذي أخفيه تحت سريري. تهالكت كل كلماتي لأنني لم أجد ردا واحدا. كنت في عمر الثانية عشر عندما قررت أن أضع الدفتر وبجانبي قلم عندما أنام لأجد شيئا مكتوبا لي على الصفحة التي تلي ما كنت أكتبه فيها لوالدي.
استعادة الذكريات
استمر وقت قراءتي للدفتر ما يجاوز الثلاث ساعات متتالية، وبعد الانتهاء وجدت أن نهاية الدفتر ما زالت تحتوي على بعض الأوراق الفارغة. راودتني فكرة أن أكتب بعد كل هذا الوقت الذي مضى، لكنني لم أجد كلمة واحدة أخبر بها أبي بعد هذا الغياب. لم أستطع حتى أن أخبره عن أول محاولاتي في شرب القهوة بعد أن كنت لا أشربها إطلاقا. أردت أن أخبره عن كل ما كنت أقرأه من الكتب وعن الاقتباسات الي دونتها. أردت أن أخبره كيف أبدو الآن بعد مضي كل هذا الوقت وأنني الآن قادرة على أن أعتمد على نفسي وأنني بت أقطع الشارع بفردي وأن الرسم ما عادي يعني لي شيئا. أردت أن أخبره عن حلمي بالسفر إلى كل انحاء العالم.
لكنني التزمتي صمتي كعادتي وأعدت الدفتر إلى مكانه وبدأت أمشي بخطوات ثقيلة لأعيد الصندوق إلى مكانه. وبقلبي مئات الأحاديث إلى والدي تبعها دمع ثقيل حار يسري على خدي وتمتمه ملؤها الشوق والحنين من ذلك الزمن: “غدا ألقاك يا أبي”.
إعداد: إسراء ابراهيم حسينات| مراجعة: هند يونس | إشراف: مصطفى فرحات